إلى محبي أدب الرعب أقدم لكم الآن مفاجأة .... أنتم قرأتم قصص الكاتب العبقري أحمد خالد توفيق بالطبع .... وتعرفون أنه تحدث كثيرا عن إدجار آلا ن بو أول كاتب في مجال أدب الرعب على مر التاريخ ... هل تمنيتم يوما قراءة أعمال بو مترجمة إلى العربية ؟ .... هنا فقط في حلقة الرعب يمكنكم ذلك ..... سأضع أشهر خمس قصص للكاتب العظيم بو .....والآن صمتا ... فالقصص التالية في حلقة الرعب لن تكون سهلة ..... هي قصص أرعبت العالم كله من قبل ... وحان الوقت لترعبنا نحن أيضا .....
القط الأسودلست أتوقع منكم، بل لست أطلب أن تصدقوا الوقائع التي أسطرها هنا لقصة هي أغرب القصص
وإن كانت في الآن عينه مألوفة للغاية .
سوف أكون مجنوناً لو توقعت أن تصدقوا ذلك، لأن حواسي ذاتها ترفض أن تصدق ماشهدته
ولمسته .
غير أنني لست مجنوناً – ومن المؤكد أنني لا أحلم- وإذ كنت ملاقياً حتفي غداً فلا بد لي من أن
أزيح هذا العبئ عن روحي .
ما أرمي إليه هو أن أبسط أمام العالم، بوضوح ودقة، وبلا أي تعليق، سلسلة من الوقائع
العادية جداً. إنها الوقائع التي عصفت بي أهوالها و واصلت تعذيبي ودمرتني. مع ذلك لن
أحاول تفسيرها وإذا كنت لا أجد فيها غير الرعب فإنها لن تبدو للآخرين مرعبة بقدر ما ستبدو
نوعاً من الخيال الغرائبي المعقد .
قد يجيء في مقبل الأيام ألمعي حصيف يبين له تفكيره أن هذا الكابوس مجرد أحداث عادية –
وربما جاء ألمعي آخر أكثر رصانة وأرسخ منطقاً وتفكيره أقل استعداداً للإثارة من تفكيري،
ليرى في الأحداث التي أعرضها بهلع مجرد تعاقب مألوف لأسباب طبيعية ونتائجها المنطقية .
عرِ ْ فت منذ طفولتي بوداعتي ومزاجي الإنساني الرقيق، حتى أن رقة قلبي كانت على درجة من
الإفراط جعلتني موضوع تندر بين زملائي .وقد تميزت بولع خاص بالحيوانات مما جعل أبواي
يعبران عن تدليلهما لي بإهدائي أنواعاً من الحيوانات المنزلية. مع هذه الحيوانات كنت أمضي
معظم أوقاتي ، ولم أعرف سعادة تفوق سعادتي حين كنت أطعمها وأداعبها. نمت هذه الطباع
الغريبة مع نموي، وكانت لي في طور الرجولة أكبر منابع المتعة .
الذين عرفوا مشاعر الولع بكلب أمين ذكي سوف يفهمون بسهولة ما أود قوله عن مدى البهجة
المستمدة من العناية بحيوان أليف .إن في تعلق الحيوان بصاحبه تعلقاً ينكر الذات
ويضحي بها مايخترق قلب الإنسان الذي هيأت له الظروف أن يعاني من خسة الصداقة
وضعف الوفاء عند الجنس البشري .
تزوجت في سن مبكرة، وقد أسعدني أن أجد في مزاج زوجتي مالايناقض مزاجي. وإذ لاحظت
ولعي بالحيوانات المنزلية لم تترك مناسبة تمر دون أن تقتني منها الأجناس الأكثر إمتاعاً
وإيناساً. هكذا تجمع لدينا طيور وأسماك ذهبية وكلب أصيل وأرانب وقرد صغير وقط .
كان هذا القط كبير الحجم بشكل مميز، جميل الشكل، أسود اللون بتمامه، وعلى قدر عجيب من
الذكاء، كانت زوجتي التي لا أثر للمعتقدات الخرافية في تفكيرها، حين تتحدث عن ذكائه تشير
إلى الحكايات الشعبية القديمة التي تعتبر القطط السود سحرة متنكرين. هذه الإشارات لاتعني
أنها كانت في يوم من الأيام جادة حول هذه المسألة. أذكر هذا لسبب وحيد هو أنه لم يرد إلى
ذهني قبل هذه اللحظة .
كان بلوتو – وهذا هو اسم القط- حيواني المدلل وأنيسي المفضل، أطعمه بنفسي، ويلازمني
حيثما تحركت في البيت. بل كنت أجد صعوبة لمنعه من اللحاق بي في الشوارع .
دامت صداقتنا على هذه الحال سنوات عديدة، تبدل خلالها مزاجي وساء سلوكي بفعل ادماني
على المسكرات (إني أحم ر خجلاً إذ أعترف بذلك) ويوما بعد يوم تزايدت حدة مزاجي
وشراستي، واستعدادي للهيجان، وتزايد استهتاري بمشاعر الآخرين. ولكم عانيت وتألمت بسبب
التعابير القاسية التي رحت أوجهها إلى زوجتي، حتى أنني في النهاية لجأت إلى العنف الجسدي
في التعامل معها .
وبالطبع فقد استشعرت حيواناتي هذا التغير في مزاجي. ولم أكتف بإهمالها بل أسأت معاملتها.
وإذا كان قد بقي لبلوتو بعض الاعتبار مما حال دون إساءتي إليه فإنني لم أستشعر دائماً في
الإساءة إلى الأرانب أو القرد، أو حتى الكلب، كلما اقتربت مني مصادفة أو بدافع عاطفي. غير
أن مرضي قد تغلب علي – وأي مرض كالمسكرات!- ومع الأيام حتى بلوتو الذي صار هرماً
ومن ثم عنيداً نكداً بدأ يعاني من نتائج مزاجي المعتل .
ذات ليل كنت عائداً إلى البيت من البلدة التي كثر ترددي إليها وقد تعتعني السكر؛ وخيل إلي أن
القط يتجنب حضوري؛ فقبضت عليه، وإذ أفزعته حركاتي العنيفة جرحني بأسنانه جرحاً طفيفاً
فتملكني غضب الأبالسة. وبدا أن روحي القديمة قد اندفعت على الفور طائرة من جسدي؛
وارتعد كل عرق في هيكلي بفعل حقد شيطاني غذاه المخدر. فتناولت من جيب سترتي مطواة،
فتحتها وقبضت على عنق الحيوان المسكين واقتلعت عامداً إحدى عينيه من محجرها! إنني
أحتقن، أحترق، أرتعد حين أكتب تفاصيل هذه الفظاعة الجهنمية .
لما استعدت رشدي في الصباح – لما نام هياج الفسوق الذي شهده الليل- عانيت شعوراً هو
مزيج من الرعب والندم بسبب الجريمة التي ارتكبتها، غير أن ذلك كان في أحسن الحالات
شعوراً ضعيفاً وملتبساً لم يبلغ مني الأعماق. ومن جديد استحوذ علي الإفراط في الشراب.
وسرعان ما أغرقت الخمرة كل ذكرى لتلك الواقعة .
في هذه الأثناء أخذ القط يتماثل للشفاء تدريجياً. صحيح أن تجويف العين الفارغ كان يشكل
منظراً مخيفاً لكن لم يبد عليه أنه يتألم، وعاد يتنقل في البيت كسابق عهده، غير أنه كما هو
متوقع، كان ينطلق وقد استبد به الذعر كلما اقتربت منه. كانت ماتزال لدي بقايا من القلب
القديم بحيث ينتابني الحزن إزاء هذه الكراهية الصارخة التي يبديها لي كائن أحبني ذات يوم.
لكن سرعان ماحل الانزعاج محل الحزن. وأخيراً جاءت روح الانحراف لتدفعني إلى السقوط
الذي لانهوض منه. هذه الروح لاتوليها الفلسفة أي اعتبار. مع ذلك لست واثقاً من وجود
روحي في الحياة أكثر من ثقتي أن الانحراف واحد من الموازع البدئية في القلب البشري، واحد
من الملكات أو المشاعر الأصيلة التي توجه سلوك الإنسان. من منا لم يضبط نفسه عشرات
المرات وهو يقترف إثماً أو حماقة لا لسبب غير كون هذا العمل محرماً؟ أليس لدينا ميل دائم،
حتى في أحسن حالات وعينا، إلى خرق مايعرف بالقانون لمجرد علمنا بأنه قانون؟ روح
الانحراف هذه هي التي تحركت تدفعني إلى السقوط النهائي. إنها رغبة النفس الدفينة لمشاكسة
ذاتها – لتهشيم طبيعة ذاتها- لاقتراف الإثم لوجه الإثم، هذه الرغبة التي لايسبر غورها هي
التي حرضتني على مواصلة الأذى ضد الحيوان الأعزل، وأخيراً الإجهاز عليه .
ذات صباح وعن سابق تصور وتصميم لففت حول عنقه أنشوطة وعلقته بغصن شجرة ..شنقته
والدموع تتدفق من عيني، وفي قلبي تضطرم أم ر مشاعر الندم؛ شنقته لعلمي أنني بذلك أقترف
خطيئة،خطيئة مميتة سوف تعرض روحي الخالدة للهلاك الأبدي، وتنزلها إن كان أمر كهذا
معقولاً، حيث لاتبلغها رحمة أرحم الراحمين والمنتقم الجبار .
في الليلة التي وقع فيها هذا الفعل الشنيع، استيقظت من النوم على صوت النيران. كان اللهب
يلتهم ستائر سريري والبيت بكامله يشتعل. ولم ننج أنا وزوجتي والخادم من الهلاك إلا بصعوبة
كبيرة. كان الدمار تاماً. ابتلعت النيران كل ما أملك في هذه الدنيا، واستسلمت مذ ذاك للقنوط
واليأس .
لم يبلغ بي الضعف مبلغاً يجعلني أسعى لإقامة علاقة سببية بين النتيجة وبين الفظاعة التي
ارتكبتها والكارثة التي حلت بي. لكنني أقدم سلسلة من الوقائع وآمل ألا أترك أي حلقة مفقودة
في هذا التسلسل .
في اليوم الذي أعقب الحريق ذهبت أزور الأنقاض. كانت الجدران جميعها قد تهاوت باستثناء
جدار واحد، هذا الجدار الذي نجا بمفرده لم يكن سميكاً لأنه جدار داخلي يفصل بين الحجرات
ويقع في وسط البيت، وإليه كان يستند سريري من جهة الرأس. وقد صمد طلاء هذا الجدار
وتجصيصه أمام فعل النيران. وهو أمر عزوته إلى كون التجصيص حديثاً. أمام هذا الجدار كان
يتجمهر حشد من الناس وبدا أن عدداً كبيراً منهم يتفحص جانباً مخصوصاً منه باهتمام شديد،
فحركت فضولي تعابير تصدر عن هذا الحشد من نوع (عجيب!) (غريب!) دنوت لأرى رسماً
على الجدار الأبيض كأنه حفر نافر يمثل قطاً عملاقاً. كان الحفر مدهشاً بدقته ووضوحه، وبدا
حبل يلتف حول عنق الحيوان .
عندما وقع نظري لأول مرة على هذا الشبح، إذ لم أكن أستطيع أن أعتبره أقل من ذلك، استبد
بي أشد العجب وأفظع الذعر. غير أن التفكير المحلل جاء ينقذني من ذلك .لقد كان القط على ما
أذكر معلقاً في حديقة متاخمة للبيت؛ فلما ارتفعت صيحات التحذير من النار، غصت الحديقة
فوراً بالناس، ولابد أن شخصاً ما قد انتزعه من الشجرة وقذف به عبر النافذةإلى غرفتي،
وربما كان القصد من ذلك تنبيهي من النوم. ولابد أن سقوط الجدران الأخرى قد ضغط ضحية
وحشيتي على مادة الجص الحديث للطلاء؛ اختلط كلس هذا الطلاء بالنشادر المتصاعد من الجثة
وتفاعل به بتأثير النيران فأحدث الرسم النافر الذي رأيته .
ومع أنني قدمت هذا التفسير لأريح عقلي، إن لم أكن قد فعلت ذلك لأريح ضميري، فإن المشهد
الغريب الذي وصفته لم يتوقف عن التأثير في مخيلتي، وعلى مدى أشهر لم أستطع أن أتخلص
من هاجس القط؛ خلال هذه الفترة عاودني شعور بدا لي أنه الندم، ولم يكن في الحقيقة كذلك.
لم يكن أكثر من أسف على فقد حيوان، وتفكير بالحصول على بديل من النوع نفسه والشكل
نفسه ليحل محله .
تابع قراءة القصة.......